تحمل هزيمة خالد ميري مرشح سلطات الانقلاب في انتخابات الصحفيين أمام خالد البلشي رسائل ودلالات مهمة تحتاج إلى الرصد والتحليل؛ فالدلالة الأهم في هذه الهزيمة المرة لمرشح السلطة أنها تعبر عن حالة سخط وغضب متصاعد حتى بين الصحفيين العاملين بالصحف والمؤسسات الإعلامية الحكومية أو تلك التي تشرف عليها أجهزة السيسي الأمنية من مخابرات وأمن وطني. الرسالة الأهم أن هزيمة ميري تعني بشكل مباشر أن هناك حالة تمرد داخل المؤسسات الصحفية التي تهيمن عليها الأجهزة الأمنية من الألف إلى الياء، وأن عملية الحشد التي أشرفت عليها أجهزة السيسي الأمنية لدعم ميري جاءت بنتائج عكسية؛ وذهب الصحفيون مصوتين لمرشح المعارضة على حساب مرشح السلطة. هذه رسالة من المجتمع الصحفي تؤكد أنه ليس فقط يرفض مرشح السلطة بل التصويت للبلشي في جوهره لمن أراد أن يقرأه على نحو صحيح هو تصويت ضد السلطة والنظام والسياسات القائمة كلها.
وكانت اللجنة القضائية المشرفة على التجديد النصفي لمجلس نقابة الصحفيين قد أعلنت مساء الجمعة 17 مارس 2023م عن فوز المرشح اليساري خالد البلشي بمنصب نقيب الصحفيين. وحصل البلشي على 2450 صوتاً، وهو رئيس تحرير موقع "درب" الإخباري التابع لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي المحسوب على المعارضة، مقابل 2211 صوتاً لمنافسه الصحفي المدعوم من الحكومة خالد ميري، وهو رئيس تحرير جريدة "الأخبار" اليومية المملوكة للدولة. وصباح السبت أعلنت اللجنة عن فوز عبد الرؤوف خليفة وجمال عبد الرحيم وهشام يونس ومحمود كامل ومحمد يحيي ومحمد الجارحي على المقاعد الستة لعضوية المجلس الذي يتشكل من نقيب و12 عضوا.
ويرى مراقبون أن هذه النتائج تعكس "غضبا واسعا وعميقا" وتمثل "رسالة غضب واحتجاج" على أجهزة الدولة التي كانت واثقة تماماً، "إلى حد الاستخفاف" بالصحفيين، بقدرتها على إنجاح مرشحها. وأبدى آخرون تفاؤلاً أكبر، إذ رأوا في النتائج مؤشراً على تغيير كبير في البلاد ينطلق من نقابة الصحفيين التي طالما اندلعت منها شرارات التغيير السياسي. وتعيد هذه النتائج إلى الأذهان الانتخابات التي أجريت عام 2004. تنافس حينها على مقعد النقيب مرشح تيار الاستقلال جلال عارف الذي ظل يخسر في كل مرة يترشح فيها أمام مرشحي الدولة القويين إبراهيم نافع ومكرم محمد أحمد. وبلغ فرط الثقة بالدولة حينها ترشيح كاتب لا يملك نشاطاً نقابياً، وأيضاً متهم بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، خلافاً لقرارات الجمعيات العمومية المتعاقبة للصحفيين، وهو الكاتب صلاح منتصر الذي تلقى هزيمة مفاجئة ومدوية أمام عارف.
ويذهب قطاع من الصحفيين أن أجهزة السيسي أخطأت حين قررت الدفع بميري الذي لا يحظى بشعبية معتبرة في أوساط الصحفيين وان بدلة النقيب "واسعة" عليه كما يقول بعضهم. وأن التوقعات كانت تشير إلى الدفع بعبدالمحسن سلامة وليس بميري الذي يتردد أنه استأذن السيسي في الترشح للمنصب وتم دعمه بشكل كامل من جانب الأجهزة. لكن مصادر بصحيفة الأهرام تقول إن عملية الحشد لم تكن بذات الحماسة التي كانت عليها في انتخابات سابقة، وأن عبدالمحسن سلامة رئيس مجلس إدارة الأهرام شعر أنه تم الغدر به لحساب ميري فلم يقم بالحشد بنفس الحماسة التي كان عليها سابقا، بل إن سلامة احتفى بمنافس ميري في مكتبه بالأهرام واستقبله بحفاوة ظهرت في الصور المنشورة للقاء.
وتعد "الأهرام" مركز ثقل تصويتي ضخم، إذ تضم أكبر تجمع للصحفيين في مصر، وخسارتها يمكن أن تقلل فرص المرشح. لكن الضربة القاضية لميري سددتها مؤسسته أخبار اليوم، حيث تراجع عدد مؤيديه، بعد انتشار تسريبات تحمله مسؤولية معاناة الصحفي صاحب الشعبية الكبيرة في المؤسسة نفسها، ياسر رزق، الذي توفي إثر أزمة قلبية في يناير 2022. وفي العزاء، خلال وجود ميري وقيادات المؤسسة الجدد، أشارت زوجة الراحل أماني ضرغام، وهي صحفية في المؤسسة نفسها، إلى القيادات قائلة: "يقتلون القتيل، ويمشون في جنازته". هكذا نُقل عن لسانها بين الصحفيين بحسب تقرير نشرته صحيفة "العربي الجديد" اللندنية.
أسهم في فوز البلشي أيضا أن الأخير يدرك أهمية البدلات النقدية التي تقدمها الحكومة للصحفيين؛ لذلك كان خلال جولاته يؤكد على الدوام أنه ليس معاديا للحكومة ولا يتصادم معها؛ بهدف تهدئة مخاوف قطاعات صحفية كانت تخشى من نجاح مرشح معارض ما يدفع الحكومة إلى الرد بعدم زيادة البدلات النقدية. وقووووووصف متابعون أداء البلشي بأنه كان "هادئاً بشكل أقرب للمهادنة"، فهو يدرك حساسية الموقفين السياسي والمهني للصحفيين. وللمفارقة، فالبلشي نفسه لديه أزمة مهنية مزمنة: الموقع الذي يترأس تحريره "درب" محجوب في مصر. وفقاً لمصادر قريبة من حملة البلشي، فقد كان هناك إدراك لأن "بذلة النقيب واسعة على الخالدين: ميري والبلشي" وأن أنصار تيار الاستقلال حاولوا إقناع النقيب السابق يحيى قلاش بخوض الانتخابات "مضمونة النتائج لضعف المنافس". لكنّ قلاش الذي سجن لساعات عام 2016، في قضية اقتحام النقابة، رفض خوض التجربة مجدداً، خشية الهزيمة أمام مرشح الدولة الضعيف، فيقضي بذلك على تاريخه النقابي الطويل، إذ ظل سكرتيراً عاماً للنقابة لعدة دورات، قبل أن يصير نقيباً عام 2014.
السبب الثالث هو التحالفات التي قام بها البلشي والتي مكنته من الفوز على مرشح السلطة لا سيما وأن السمة الغالبة على المصوتين هي التصويت العقابي لمرشح السلطة كشكل من أشكال الرفض والاحتجاج عل مجمل الاوضاع القائمة التي أدت إلى تدهور مستويات المعيشة لجميع فئات المجتمع التي باتت تكتوي بهذه السياسات القائمة. فهل تكون نقابة الصحفيين إيذانا بشرارة التحرر من هذه السلطة العسكرية الغاشمة كما فعل المحامين من قبل في أزمة الفاتورة الإلكترونية؟
Facebook Comments