في واقعة جديدة تُبرز ازدواجية معايير العدالة في مصر، أحالت النيابة العامة بسلطة الانقلاب عددًا من موظفي الجمعية التعاونية للبناء والإسكان للعاملين بشركة "أسمنت بورتلاند حلوان" إلى المحاكمة الجنائية، بتهم الاستيلاء على نحو 5.5 ملايين جنيه، عبر تزوير شيكات ومستندات مالية، ورغم خطورة الوقائع، إلا أن المتابعين رأوا فيها رسالة سياسية لا تخطئها العين: "اضربوا الصغار واتركوا الحيتان". "إذا سرق فيهم الشريف تركوه" القضية التي شغلت الرأي العام العمالي، تعود تفاصيلها إلى تورّط 10 متهمين، بينهم قيادات حالية وسابقة في الجمعية، بمحاولة تمرير شيكات مزوّرة من حسابات الجمعية بالبنك الأهلي الكويتي، ما أدى إلى صرف مبالغ مالية لصالح أفراد غير مستحقين، ثم استردادها نقدًا عبر وسطاء خارجيين. لكن اللافت في توقيت الإعلان عن القضية، هو أن المبل لا يتجاوز 5.5 ملايين جنيه، وهو مبلغ يُعد ضئيلًا مقارنة بما تتداوله التقارير الرقابية نفسها بشأن وقائع فساد وهدر مالي بمليارات الجنيهات داخل مشروعات يديرها قيادات من الجيش أو محسوبون على دوائر النفوذ، دون أن تطالهم يد القانون. كامل الوزير نموذجًا: المليارات بلا مساءلة في المقابل، لا تزال قضايا فساد أضخم، وعلى رأسها مخالفات مالية جسيمة ارتبطت بوزارة النقل تحت إشراف اللواء كامل الوزير، تمر دون مساءلة حقيقية، إذ كشفت تقارير برلمانية ومتابعات صحفية عن تجاوزات بعشرات المليارات في مشروعات السكك الحديدية والطرق والموانئ، إلا أن الدولة لم تفتح أي تحقيق علني مع الوزير، الذي لا يزال يتمتع بثقة السيسي ودعمه الكامل. ويرى مراقبون أن هذا التمييز في التعامل مع الفساد يعكس منطقًا سلطويًا واضحًا: "إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي تركوه"، وهو منطق طالما انتُقد داخليًا وخارجيًا باعتباره أحد الأسباب الرئيسية لفشل جهود الإصلاح ومكافحة الفساد في مصر. الجمعيات التعاونية: ثغرة مفتوحة للفساد من جهتها، أكدت النيابة أن المتهمين في قضية "بورتلاند حلوان" استغلوا مناصبهم في إصدار شيكات بقيم مختلفة، أبرزها 2.5 مليون جنيه و1.63 مليون جنيه، بتواطؤ من موظف على المعاش تولّى تزوير المستندات، في ظل غياب شبه تام للرقابة الداخلية. وسلطت القضية الضوء على ثغرات الرقابة على الجمعيات التعاونية داخل المؤسسات الصناعية، وهي كيانات تعاني منذ سنوات من غياب المعايير الرقابية والمحاسبية، ما يجعلها بيئة خصبة للتلاعب المالي. من الخصخصة إلى القلعة: خلفية مشبوهة لشركة الأسمنت جدير بالذكر أن شركة "أسمنت بورتلاند حلوان" كانت محل جدل واسع منذ خضوعها لعملية خصخصة مثيرة للريبة عام 2001، حين باعت الحكومة 47.9% من أسهمها لشركة "أسيك" حديثة التأسيس، دون ضمانات كافية، وبعد ثلاث سنوات فقط، اشتراها رجل الأعمال أحمد هيكل، ليضيفها إلى مجموعة شركات "القلعة"، في صفقة وُجهت لها اتهامات باستغلال النفوذ، دون أن تُفتح فيها أي ملفات تحقيق حقيقية. عدالة مُنحازة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، ووسط حملات دعائية لمكافحة الفساد، تبدو قضايا مثل "أسمنت حلوان" مجرد محاولة لتقديم "أكباش فداء"، بينما تبقى الملفات الكبرى مغلقة بإحكام، ويختم أحد المحامين المتابعين للقضية قائلًا: "العدالة في مصر باتت تفرّق بين لص بثياب موظف، وآخر يرتدي بزّة لواء". --
