في مشهد يعيد إنتاج ممارسات خمسينيات القرن الماضي من مصادرة الأموال والتنكيل بالخصوم الاقتصاديين، تعود سلطات الانقلاب أمس إلى وضع رجل الأعمال صفوان ثابت، مؤسس “جهينة” للصناعات الغذائية، في قفص الاتهام، بعد سنوات من الإفراج عنه عقب فترة حبس احتياطي طويلة أثارت استهجان الأوساط الاقتصادية والحقوقية. القضية الجديدة، التي تضم أيضًا نجله سيف، ووزير القوى العاملة الأسبق خالد الأزهري، ونحو 50 متهمًا آخرين، تفتح الباب واسعًا للتساؤل:
هل يلجأ السيسي مجددًا إلى شماعة “الإخوان المسلمين” لتبرير عجز نظامه عن إنقاذ الاقتصاد المنهار؟
أم أن النظام، وقد استنفد أدواته، يسعى إلى ابتزاز ما تبقى من رجال الأعمال لتمويل خزائن الدولة الخاوية؟
شماعة الإخوان: بين الفشل والتوظيف السياسي
في التفاصيل، حددت محكمة استئناف القاهرة يوم 9 أغسطس/آب المقبل لنظر أولى جلسات محاكمة صفوان ثابت ونجله سيف، إلى جانب الوزير الأسبق خالد الأزهري، ورجل الأعمال يحيى مهران، وآخرين، في قضية تحمل رقم 865 لسنة 2020 حصر أمن دولة عليا، بتهمة “تمويل جماعة إرهابية والإضرار بالاقتصاد القومي”.
اللافت في لائحة الاتهام، التي تسربت أجزاء منها إلى وسائل الإعلام الموالية للسلطة، أنها تكاد تكون نسخة مكررة من اتهامات وُجهت لعشرات الآلاف منذ انقلاب 2013: “الانضمام لجماعة إرهابية، تمويل أنشطتها، محاولة تغيير نظام الحكم بالقوة، زعزعة استقرار الدولة، والإضرار بالمصالح الاقتصادية العليا”.
لكن هذه المرة، ثمة فارق نوعي. فالمستهدف ليسوا سياسيين أو ناشطين شبابًا يمكن للنظام وصمهم بسهولة، بل أسماء ثقيلة في عالم الاقتصاد، أبرزهم ثابت، الذي أسس واحدة من كبرى شركات الصناعات الغذائية في مصر والعالم العربي.
ابتزاز اقتصادي تحت لافتة الأمن القومي
لم يكن ثابت الوحيد الذي وقع ضحية هذه الممارسات. منذ سنوات، يتعرض كبار رجال الأعمال لضغوط متصاعدة للمساهمة في دعم الاقتصاد عبر “التبرعات الإلزامية”، أو مواجهة سيناريوهات مشابهة لما تعرض له مالك “جهينة”. ومنذ 2013، توسعت الدولة في فرض سيطرتها على الاقتصاد، حتى صار الجيش، عبر شركاته وأذرعه الاستثمارية، اللاعب الأبرز في كافة القطاعات، من البناء إلى الصناعات الغذائية.
خبراء اقتصاديون يرون أن النظام الحالي يعتمد على استراتيجية خنق القطاع الخاص المستقل لصالح شركات الجيش، مستخدمًا فزاعة “تمويل الإرهاب” لإسكات أي مقاومة من رجال الأعمال. يقول أحد المحللين الاقتصاديين، طالبًا عدم الكشف عن هويته خوفًا من الملاحقة:
“ما يحدث مع صفوان ثابت هو رسالة موجهة لكل من يعتقد أنه يستطيع البقاء خارج دائرة السيطرة الكاملة للدولة. إما أن تدفع أو يتم سحقك باتهامات جاهزة.”
قصة غرفة الأموال: دعاية أمنية أم حقيقة؟
أوراق القضية تبرز اسم رجل الأعمال يحيى مهران، الذي زعمت التحريات الأمنية أنه “أحد أبرز ممولي الجماعة”، وأنه استخدم شقة بحدائق الأهرام كمخزن سري للأموال، عُثر فيها -بحسب رواية الأمن- على “غرفة سرية” ذات باب مصفح وجدران مسلحة، تحتوي على 8.4 ملايين دولار نقدًا، إضافة إلى مبالغ أخرى بالعملة المحلية والعملات الأجنبية.
لكن مصادر حقوقية شككت في صحة هذه الرواية، معتبرةً أنها جزء من “البروباغندا” المعتادة التي تستخدمها الأجهزة الأمنية لتبرير الحملة على القطاع الخاص.
عودة خالد الأزهري.. استهداف الرموز السياسية السابقة
القضية أعادت أيضًا إلى الواجهة اسم الوزير الأسبق خالد الأزهري، الذي شغل منصب وزير القوى العاملة في حكومة الرئيس الراحل محمد مرسي. الأزهري سبق أن قضى سنوات في الحبس الاحتياطي على خلفية اتهامات مماثلة، قبل أن يتم الإفراج عنه، ليعاد إدراجه اليوم في القضية ذاتها.
هذا التكرار الممنهج لاتهامات “الإرهاب” ضد رموز النظام السابق والمعارضين السياسيين يثير التساؤل عن جدية الدولة في مكافحة الإرهاب، أم أن الهدف الفعلي هو القضاء على أي صوت معارض أو مستقل.
اقتصاد مأزوم يبحث عن كبش فداء
تأتي هذه التطورات في وقت يواجه فيه الاقتصاد المصري أكبر أزماته منذ عقود: تضخم غير مسبوق، انهيار الجنيه، ديون خارجية تجاوزت 165 مليار دولار، ومفاوضات متعثرة مع صندوق النقد الدولي. ويقول مراقبون إن النظام بحاجة إلى شماعة جديدة لصرف نظر الرأي العام عن فشله، بعد أن استُهلكت كل الأكاذيب عن “الإرهاب” و”المؤامرات الخارجية”.
في هذا السياق، يرى محللون أن إعادة تدوير خطاب “الإخوان” لم يعد مقنعًا لقطاع واسع من المصريين، الذين باتوا يعانون يوميًا من ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات.
ابتزاز رجال الأعمال: نموذج صفوان ثابت
ما حدث مع مالك “جهينة” ليس حادثة معزولة. بل هو جزء من نهج طويل بدأ بمصادرة أموال المئات من رجال الأعمال والشركات بزعم ارتباطهم بالإخوان. في 2021، نشرت “هيومن رايتس ووتش” تقريرًا يتهم السلطات المصرية بـ“ابتزاز رجال الأعمال عبر تهم الإرهاب”، فيما وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها “عقوبات جماعية تستهدف تدمير الطبقة الوسطى”.
هل انتهى رصيد النظام؟
بينما يستعد النظام لمحاكمة صفوان ثابت ونجله وآخرين، تتعالى الأصوات التي ترى في القضية مؤشرًا على إفلاس الدولة سياسياً واقتصادياً. فالنظام، الذي قدم نفسه في 2013 كحامٍ للاستقرار الاقتصادي والأمني، بات اليوم عاجزًا عن تقديم أي إنجاز سوى الاعتقالات والمحاكمات الصورية.
السؤال الأهم الآن: هل هذه الحملة الجديدة بداية لموجة أوسع تستهدف ما تبقى من رجال الأعمال المستقلين، أم أنها آخر أوراق النظام قبل السقوط المدوي؟