ألقى اللقاء الكارثي الذي أُجري بين رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ورئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو، في أوغندا، بظلاله على سؤال السياسة الخارجية السودانية ومن يديرها، في ظل اختلاف التوجهات بين مكونات الحكم العسكرية والمدنية.
وأثارت الخطيئة التي تمت في العاصمة الأوغندية، موجة انتقادات واسعة من الناشطين السودانيين، واحتفى نتنياهو باللقاء قائلا في تغريدة بموقع “تويتر”: “تم الاتفاق من أجل التعاون على تطبيع العلاقات بين البلدين”، مضيفا “أؤمن بأن السودان يسير في اتجاه جديد وإيجابي”، بحسب تعبيره.
وتابع نتنياهو: “يريد رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان مساعدة دولته في الدخول في عملية حداثة وذلك من خلال إخراجها من العزلة ووضعها على خريطة العالم”.
حالة الفرز
وتجاوزت حالة الشقاق حيال لقاء البرهان نتنياهو في عنتيبي الأوغندية، القوى السودانية إلى ائتلاف قوى الحرية والتغيير الحاكم نفسه، وإلى ما يشبه حالة الفرز بين العسكريين والمدنيين في الحكومة الانتقالية.
وعلى إثر ذلك، نشطت وساطات لاحتواء حالة التصعيد بين المكونين المدني والعسكري، يقودها محمد حمدان حميدتي، نائب رئيس مجلس السيادة، الذي لم يبد أي موقف حتى الآن.
وفي هذا الإطار اصطحب حميدتي، عضوي مجلس السيادة صديق تاور وعائشة محمد أحمد إلي رئاسة مجلس الوزراء، حيث التقوا رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في إطار التهدئة ووقف حرب البيانات التي استعرت بين مجلسي الوزراء والسيادة في غضون الساعات الماضية.
وبعد اجتماع قصير، حسب مصادر مطلعة، اصطحب ثلاثتهم حمدوك إلى القصر الرئاسي، حيث انخرطوا في اجتماع مع رئيس المجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لطي صفحة الخطيئة!!.
وخرج العشرات من لجان المقاومة في السودان في تظاهرة أمام مقر “تجمع المهنيين السودانيين” في العاصمة الخرطوم، احتجاجا على عدم التزام التجمع بأهداف الثورة، ومحاسبة البرهان، للقائه بنيامين نتنياهو.
وردد المتظاهرون شعارات “تجمع المهنيين لا يمثلنا”، و”تجمع المهنيين يسقط بس”، كما أحرقوا إطارات السيارات أمام مقر التجمع، وتكونت لجان المقاومة في المدن والقرى السودانية، عقب اندلاع الاحتجاجات في 19 ديسمبر 2018، وكان لها دور كبير في إدارة التظاهرات في الأحياء والمدن حتى عزل الرئيس عمر البشير في 11 أبريل 2019.
وبعد أيّام قليلة من إعلان ترامب ونتنياهو عن خطّتهما لتصفية القضية الفلسطينية، يلتقي البرهان وبنيامين نتنياهو، وكما هو معلوم، فالمجلس الذي يرأسه البرهان هو المخوّل بالإشراف على المرحلة الانتقالية في السودان، بالاتفاق مع قوى إعلان الحرّية والتغيير، وهذا المجلس تنبثق عنه الحكومة التي قالت إنّها لم تعلم بلقاء البرهان ببنيامين نتنياهو إلا من وسائل الإعلام.
هذه الاتجاهات السياسية للحكم الجديد في السودان، الناشئ عن تحالف العسكر مع قوى إعلان الحرّية والتغيير، لا يمكن تبرئة العهد السابق منها، باعتبار أنّ سياساته هي التي صنعت هذا النمط من العسكر، وانتهت بفشل فجّر الاحتجاجات التي تمكّنت من إسقاطه.
وفي الوقت نفسه، وبعد تسجيل كلّ ما يمكن قوله من نقد للعهد السابق، ولا سيّما بعض سياساته الأخيرة، فإنّه لا ينبغي أن يغيب عن تقييمه موقفُه من القضيّة الفلسطينية، الذي لم يَقْتَصِر على الدعم الخطابي، أو على العلاقة السياسيّة ببعض حركات المقاومة، ولكنّه وفوق ذلك، جعل من السودان ممرّا لإمداد المقاومة، وأرضا تبني عليها عتادها وقدراتها، مما وضعه في مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي.
إزاحة الإسلاميين
بصرف النظر عن مآلات الاحتجاجات في السودان التي انطلقت اعتراضا على حكم البشير، وكيف صارت نتائجها، على الأقل في المرحلة الانتقالية، يعمل الصراع في مرحلته هذه على إزاحة مُمَنهجة للإسلاميين، وإعادة هندسة الدولة والمجتمع على مقاس القادمين الجدد.
فإنّه، وبالاستفادة من التجربة السودانية هذه، لا بدّ من إعادة النظر في الاحتجاجات الشعبيّة وكيفية بلورتها سياسيّا، من جهة خطابها السياسي تجاه القضيّة الفلسطينية ومدى الوعي بعمق اتصال القضية الفلسطينية بقضايا العرب الخاصّة، ومن جهة الكيفية التي بات يتعامل بها الإسلاميون في العالم العربي مع هذه الاحتجاجات، من بعد الثورات العربيّة.
أبعد مما يقال عن الإفادة الظرفية بين “إسرائيل” والسودان، سواء كان الخرق العربيّ لدعم نتنياهو في صفقة ترامب والسماح لـ”إسرائيل” بعبور الأجواء السودانية مقابل الوساطة الإسرائيلية مع واشنطن، تتّجه الحكومة المشتركة بين المجلس العسكري و”الحرية والتغيير” إلى التخلّي عن السّودان لـ”إسرائيل” والإمارات والمحور الأمريكي، بذريعة معالجة الأزمة الاقتصادية وتوفير السيولة.
إنَّ مرافقة رئيس الموساد يوسي كوهين لنتنياهو إلى عنتيبي للقاء البرهان ليست مصادفة، فـ”إسرائيل” لا تنظر إلى السودان في المتفرقات الجزئية والاختراقات الرمزية كحالة منفصلة عن أفريقيا السمراء والدول الخليجية التي تطبّع معها، من أجل السيطرة على هذه البلدان ونهب ثرواتها بدعم أميركي وغربي، وهي نظرة قديمة انطلقت ضد جمال عبد الناصر والسدّ العالي، وضدّ أنظمة “الوحدة الأفريقية”، بتوطيد العلاقة مع إثيوبيا لبناء سد النهضة، والسعي الدؤوب لفصل جنوب السودان.
لكن تخلّي السادات عن إفريقيا بالصّلح مع “إسرائيل”، في مراهنةٍ على أنَّ 99% من الأوراق في يد أمريكا، دعّم نفوذ أمريكا و”إسرائيل” ومصالحهما في مصر والقارة السمراء، فباتت إثيوبيا و”إسرائيل” وأمريكا تتحكّم بتجويع مصر والسودان وحرمانهما من رمق مياه النيل، وباتت إثيوبيا، إلى جانب “إسرائيل”، القوّة الرئيسية في إفريقيا السمراء.
وهو ما يتباهى به نتنياهو بعد لقاء البرهان بقوله: “لقد عادت إفريقيا إلى حضن إسرائيل”، قاصدا الثأر من التأثير العربي في إفريقيا، وهو ما يثني عليه مايك بومبيو، بتوجيه الدعوة للبرهان إلى واشنطن لزرع الوهم بمكافأته، كما كافأت أمريكا مصر بتحويلها إلى دولة منهارة ولقمة سائغة لإثيوبيا و”إسرائيل”.
