وظيفة الإفتاء هي وظيفة قديمة في مصر ترجع إلى بداية الفتح الإسلامي لمصر، ومارسها بشكل تطوعي بعض الصحابة في مصر، مثل عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
وتحولت وظيفة الإفتاء إلى وظيفة رسمية في العصر المملوكي، وارتبطت بالنظام القضائي، حيث كانت هناك أربع وظائف للإفتاء في دار العدل، هي: مفتي دار العدل الشافعي، ومفتي دار العدل المالكي، ومفتي دار العدل الحنفي، ومفتي دار العدل الحنبلي، وكان قاضي قضاة كل مذهب هو الذي يختار مفتي المذهب ويعرضه على السلطان ليقوم السلطان بتعيينه في المنصب.
وعندما دخل العثمانيون مصر غيروا النظام القضائي، وتغير بذلك نظام الفتوى، فأصبحت هناك وظيفة واحدة للإفتاء هي وظيفة “مفتي السلطنة الشريفة بمصر” وكان يعين بمعرفة مفتي إسطنبول، وكان مفتي مصر شافعيًا في أغلب الأحوال بالرغم من أن الدولة العثمانية كانت حنفية المذهب، فما الذي جرى لدار الإفتاء على يد العسكر حتى باتت تتجاهل نوازل الأمة والفتوى في الملمات، ويصل الأمر أن يتسلط عليها العسكر ويوظفونها للفتوى في المسلسلات التركية وإعدام الخصوم؟
ما قبل السيسي
في عصر محمد علي أصبح هناك 4 مفتين للمذاهب الأربعة، ولكنّ الزعامة عليهم كانت للمفتي الحنفي الذي كان يسمى “مفتي أفندي مصر”، وكان الباشا والي مصر هو الذي يعين المفتي بعد ترشيح العلماء له.
ومنذ أول يناير 1956، تاريخ العمل بقانون إلغاء المحاكم الشرعية الذي اعتمده نبي القومية العربية أبو الهزائم جمال عبد الناصر، آلت إلى دار الإفتاء الشهادات التي كانت من اختصاص رئيس المحكمة العليا الشرعية، وهى إشهاد خروج المحمل بكسوة الكعبة الشريعة وبكسوة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمقدار المبلغ النقدي المهدي من الأوقاف إلى فقراء الحرمين الشريفين أو ما يسمى بـ”الصرة”، وإشهاد وفاء النيل الذي بمقتضاه يحق شرعا للدولة جباية ضرائب الأراضي الزراعية.
وقد توقف هذان الإشهادان حيث كان آخر إشهاد بخروج المحمل في 26 من شهر ذي القعدة سنة 1381 هجرية أول مايو سنة 1962م؛ بسب خلافات سياسية بين جمهورية العسكر ومملكة آل سعود، وكان آخر إشهاد بوفاء النيل في 12 من شهر رجب سنة 1392 هجرية الموافق 21 أغسطس سنة 1972 م، بسبب حجز مياه فيضان النيل بالسد العالي فوق أسوان بعد هذا التاريخ، قبل كارثة سد النهضة الإثيوبي وانقلاب السفيه السيسي بـ48 عاما.
كما كان من اختصاص رئيس المحكمة العليا الشرعية استطلاع أهلة الشهور القمرية التي فيها مواسم دينية، وهى أشهر المحرم وربيع أول ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو الحجة، وصار هذا من اختصاص دار الإفتاء منذ إلغاء المحاكم الشرعية، تقوم به الآن.
مع تصاعد الخلاف بين العسكر وتركيا منذ الانقلاب في مصر صيف 2013؛ لم تدخر أذرع الإعلام جهدا في مهاجمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسياساته في المنطقة، ليتحول الأمر تدريجيا إلى مهاجمة كل ما هو تركي، بداية من تاريخ الخلافة العثمانية وليس انتهاء بالدراما التركية.
وشهدت سنوات السفيه السيسي دخول المؤسسة الدينية على خط مهاجمة تركيا وأردوغان، لكنّ أحدا لم يتوقع أن يصل الأمر إلى انشغال دار الإفتاء المصرية بالتحذير من أعمال درامية تركية شهيرة، حيث قال المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء: إن أردوغان يستخدم جميع أسلحته، وكذلك قواه الناعمة لتحقيق الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، ويريد عودة الإمبراطورية العثمانية من جديد!.
إنسانية القتل!
وأمعن السفيه السيسي في توظيف صرح عظيم كـ”دار الافتاء” في شرعنة إعدام رافضي الانقلاب وخصوصا من جماعة الإخوان المسلمين، حتى أصدرت الدار بيانا غريبا، بعد يوم من تنفيذ حكم الإعدام بحق 9 معتقلين أدينوا ظلما وبعد التعذيب باغتيال النائب العام الأسبق هشام بركات، تحدَّثت فيه عن جماعة الإخوان المسلمين.
ورد السفيه السيسي على مطالبات الدول الأوروبية بوقف الإعدامات، بأن “أخذ الحق” هو النظام السائد بين سكان المنطقة، لذلك يجب على الأوروبيين أن يحترموا “أخلاقيات وإنسانية” المصريين، وألا يتدخلوا في هذه القضية.
وقال السفيه السيسي: “عندما يقتل شخص في بلدنا وعالمنا العربي بعمل إرهابي، تأتي الأسر وتطالبني بأخذ حق أبنائها، وهذه هي الثقافة الموجودة في هذه المنطقة”.
وأضاف قائلا: “الحق في هذه المنطقة يجب أن يؤخذ، بالقانون”، ولفت إلى أنه إذا طالب الدول الأوروبية، مثلا، بمراجعة نفسها من أجل إعادة تطبيق حكم الإعدام، سيعتبر ذلك عدم تفهم لـ”الواقع والتطور الذي يناسب الأوروبيين”.
وأشار السفيه السيسي إلى أن تدخل الدول الأوروبية في هذه القضية يمثل محاولة لـ”تعليم” المصريين “إنسانيتهم”، وتابع قائلا باللهجة الدارجة: “انتو مش حتعلمونا إنسانيتنا”.
وأضاف قائلا: “نحن لدينا إنسانيتنا ولدينا قيمنا ولدينا أخلاقياتنا، ولديكم إنسانيتكم ولديكم أخلاقياتكم، ونحترمها، فاحترموا أخلاقياتنا وأدبياتنا وقيمنا، كما نحترم قيمكم”.
دار الإعدام المصرية!
وفي صفحتها على “تويتر”، كتبت دار الإفتاء مجموعةً من التغريدات، شرحت فيها موقفها مما حدث، وموقفها من الإخوان، قالت في أولاها: “ما تقوم به مؤسسات الدولة وجيشها وشرطتها من مقاومةٍ للجماعات الإرهابية يُعدُّ من أعلى أنواع الجهاد”، على حد قول الضابط الذي كتب التغريدة!.
واستكمل الضابط الذي يكتب نيابة عن “الإفتاء” تغريداته بالحديث عن الإخوان المسلمين، قائلاً: “جماعة الإخوان الإرهابية خوارج العصر أعداء مصر، نشروا الدمار والخراب باسم إقامة الدين، لم يقدموا عبر تاريخهم أي منجز حضاري يخدم وطنهم أو دينهم، اللهم إلا الشعارات الجوفاء والخطب الرنانة”.
وأضاف الضابط مُورطًا دار الإفتاء في تغريداته: “لم تعرف أمتنا الإسلامية على كثرة ما خرج فيها من فرق وتيارات منحرفة جماعةً أضل من جماعة الإخوان الإرهابية، فالدين مطيتهم، والكذب وسيلتهم، والنفاق صناعتهم، والقتل هوايتهم، والإرهاب طريقتهم، والشباب ضحيتهم، وإبليس قدوتهم، وتمزيق الأوطان هدفهم، والسياسة غايتهم”.
وفي تغريدة أخيرة صدرت باسم دار “الإفتاء”، يشعر القارئ أنها كتبت مجاملة لكيان العدو الصهيوني، يقول الضابط فيها: “ثمانون عاما أو يزيد لم تقدموا لأمتكم إلا الإرهاب والقتل وتزييف الحقائق، ومهما بلغتم من إجرام وإرهاب فلن يثنينا إرهابكم وبغيكم عن مقاومة شَرّكم وجهاد عدوانكم، ومهما مارستم من دجل وكذب فلن نتوقف عن فضح كذبكم وتفنيد ضلالكم”!.
وكانت سلطات الانقلاب قد نفَّذت حكمَ الإعدام، الأربعاء 20 فبراير 2019، في تسعة أشخاص أدينوا باغتيال النائب العام هشام بركات، في هجوم عام 2015، وسط زيادة في عدد أحكام الإعدام التي تم تنفيذها هذا الشهر.
وقالت منظمة العفو الدولية، التي ناشدت السلطات المصرية، الثلاثاء 19 فبراير 2019، وقف تنفيذ الحكم: “تنفيذ عمليات الإعدام هذه ما هو إلا دليل صارخ على الاستخدام المتزايد للحكومة لعقوبة الإعدام”.
ومنذ عام 2013 وهو العام الذي أعلن فيه جنرال إسرائيل السفيه عبدالفتاح السيسي حين كان وزيرا للدفاع وقائدا للجيش الغدر بالرئيس الشهيد محمد مرسي، أصدرت محاكم الجنايات المصرية أحكاما بإعدام مئات المصريين، ووضعت دار الافتاء “ختم الله” عليها ظلما وعدواناً!.
