حقوق الإنسان في نظر الغربيين

- ‎فيمقالات

ما أعظم دساتير الغرب وإعلاناته فى مجال حقوق الإنسان، والتى عظَّمت شأن الآدمى وكفلت كرامته، وهيأت له البيئة الآمنة والسلامة من جميع الأخطار، وقد امتدت تلك الحقوق لتشمل حيواناته وحتى الطيور التى ترفرف فى سمائه..

لكن.. تظل هذه الحقوق حكرًا على الرجل الأبيض وفى نطاق البقعة التى يسكنونها، وفى إطار مطالبهم القومية. أما عندما يتعلق الأمر بغير الغربيين فإن دساتيرهم وإعلاناتهم المشار إليها تصير نظرية لا يطبق منها إلا ما جلب لهم مصلحة أو استُغلّ لمنفعة.

عالم براجماتى متناقض، يقول ما لا يفعل، ولا يستحيى من إتيان الشىء وخلافه، ولا يمنعه ذلك من تقديم براهين مزيفة وأدلة ساذجة لا تخيل على عاقل.. وقد بدا هذا العالم الذى يدعى التمدن، فى الحرب الأخيرة على غزة، جشعًا مستغلًا، متعصبًا منحازًا، يكيل بمكيالين رغم الشواهد على إجرام من ينحاز إليه، ورغم النداءات المتكررة بتحكيم المبادئ الإنسانية وما تعارفت عليه الأمم المتحضرة.. لكن لا حياة لمن تنادى.

حتى المنظمات التى يُطلق عليها «أممية»، أى من المفترض أن تعمل من أجل مصلحة الجميع، هى أيضًا على النمط العنصرى نفسه الذى تنتهجه أمريكا والغرب. كم اجتماع عقدته «الأمم المتحدة» فى الأحد عشر يومًا، أيام الحرب، ثم ينفض ولا نتيجة، والغرض: التسويف من جانب تلك الهيئة حتى يرتوى العدو من الدم، وحتى يرضيه عددُ القتلى وكمُّ المنازل المهدمة، وفى الأخير: لا إدانة ولا إجراءات تردع القاتل أو تمنعه من تكرار جريمته.

ماذا نسمى هذا التناقض إذًا؟ وبماذا نفسِّر انحياز دول مثل أمريكا وألمانيا، وبشكل صريح، للكيان الغاصب رغم ديمقراطية الدولتين وتمتع شعبيهما بجميع حقوق الإنسان؟ ولماذا يبقى ما يُعرف بـ«الفيتو» إلى الآن؟ ولِمَ هذا التناقض الفج من إدارة «الفيس بوك» -مثلًا- لدرجة أنه ينتهك بنفسه «المعايير» التى وضعها لمستعملى تطبيقه، ويصنف مشتركيه بحيث يعاقب المتعاطفين مع الفلسطينيين ويحذف منشوراتهم ويحظرهم لمدد متفاوتة؟

الحقيقة أن حقوق الإنسان التى تأسست فى الغرب بعد ثورات وحروب وأزمنة عمَّها الظلام، جاءت علاجًا للخروج من تلك الكوارث التى امتدت لقرون، وكانت هى الضمانة للاستقرار وإخماد الثورات، فهى ليست مبدأ أو عقيدة فى فكر من أنشأها؛ بدليل أن هذه الدساتير العظيمة سرعان ما تتبدل إلى النقيض فى حال نشوء خلاف مع جارة من نفس القارة أو حتى بين الأحزاب والجماعات داخل الدولة نفسها.

والحقيقة الأخرى الأمرُّ: ألا مجال عند هؤلاء للحديث عما يسمى «حقوق الإنسان» بالنسبة للمسلمين؛ فهولاء فى تصور الغرب أعداء دين وتاريخ؛ من ثَمَّ وجب اتخاذ جميع السبل الكفيلة بإبقائهم تحت وابل القصف المادى والمعنوى فلا يفيق عالمهم من مصيبة حتى يقع فى غيرها فيُحرمون بذلك الاستقرار. وقد أكد الصحفى السويدى «إيريك هرستاديوس» -وكان ممن تابعوا حرب الخليج- هذا الأمر بقوله: (لو أن مائة ألف عربى قُتلوا لما انتابنى أى شعور غير عادى، أما بالنسبة لقوات الحلفاء الغربيين فالأمر مختلف؛ لأنى أشعر بالتعاطف معهم ومع أسرهم. إن العرب يبعثون الخوف فى نفسى على أية حال).

من أجل ذلك حرص الغرب على إبقاء عالمنا محكومًا بالطغاة، الذين يأتى بهم ويدعمهم بشتى السبل، ولا يتخلى عنهم إذا مسَّهم طائف الثورة أو التغيير الشعبى؛ لأن هؤلاء ضمانة لتحقيق أهدافه بأسرع وأفضل بكثير من الاحتلال، وقد جرَّب بقاء قواته لعقود فى بلادنا فلم يفلح فى تغيير معتقد أو تبديل دين. يقول المستشرق الأمريكى «وك سميث»: (إذا أُعطى المسلمون الحرية فى العالم الإسلامى وعاشوا فى ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر فى هذه البلاد، وبالديكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها).

ومن واجب المسلمين اليوم، وقد أُتيح لهم ما لم يكن متاحًا من قبل من فرص التغيير وإسماع الآخرين صوتهم، أن يعلموا أن هذا «الغرب» لن ينصفهم، وأن الحقوق تُنتزع ولا تُستجدى، وأنه فى عالم تحكمه المصلحة لا بد من الوعى واليقظة، واستلهام تجارب المصلحين فى التغيير، ولا يمنع ذلك من الاستعانة بغربيين منصفين، فهم أدرى بما يخبئه أقوامهم لنا، وأقدر منا على فضحهم وكشف سوءاتهم. والله المستعان.