من نصر أكتوبر إلي انتكاسة العقيدة العسكرية ..كيف تحول جيش مصر من محاربة العدو لحماية النظام؟!

- ‎فيتقارير

 

من نصر أكتوبر إلى انتكاسة العقيدة العسكرية.. كيف تحوّل جيش مصر من مواجهة العدو إلى حماية النظام؟

في السادس من أكتوبر من كل عام، تعود ذكرى حرب العبور المجيدة عام 1973، التي سجّل فيها الجنود المصريون أعظم صفحات البطولة والفداء في تاريخ العسكرية الحديثة، عندما كسروا أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” على ضفاف قناة السويس، وأعادوا للأمة العربية كرامتها بدماء المجندين البسطاء الذين قاتلوا بإيمانٍ وإرادةٍ لا تلين، رافعين شعار "الله أكبر" الذي دوّى في سماء سيناء، إيذانًا ببدء ساعة النصر.

لكن، وبعد مرور 52 عامًا على النصر، يتساءل كثير من المراقبين: أين ذهبت تلك الروح القتالية؟ وكيف تحوّل الجيش الذي هزم إسرائيل بالسلاح والعقيدة، إلى مؤسسةٍ متخمة بالمصالح الاقتصادية، تستثمر في الأسمنت والمكرونة والمنتجعات، أكثر مما تُعِدّ للحرب؟

السادات واتفاقية كامب ديفيد: بداية الانحراف

يُجمع خبراء عسكريون ومؤرخون أن اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 كانت اللحظة التي تم فيها تجميد مفعول النصر العسكري، وتحويله إلى نصرٍ سياسي هشّ خضع لشروط أمريكية–إسرائيلية واضحة، من بينها ضمان حياد الجيش المصري في أي مواجهة عربية–إسرائيلية لاحقة، وربط تسليحه وتمويله بالمعونة العسكرية الأمريكية السنوية التي بلغت مليارات الدولارات.

يقول أحد الخبراء العسكريين المعارضين إن “المعونة لم تكن يومًا هبة، بل كانت أداة لترويض الجيش المصري وإعادة تشكيل عقيدته لتصبح أقرب إلى الرؤية الأمريكية”، وهو ما انعكس تدريجيًا على قياداته التي تحولت من “رجال حرب” إلى “رجال أعمال” ووسطاء صفقات، يحصلون على بدلات ولاء ضخمة مرتبطة بالالتزام بخط واشنطن وتل أبيب.

عقيدة جديدة: من مواجهة العدو إلى مواجهة الشعب

منذ مطلع الألفية، وخاصة بعد انقلاب يوليو 2013، تبدّل تعريف “العدو” داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية. فبعدما كان الكيان الصهيوني هو الخطر الأكبر على الأمن القومي، أصبح “التيار الإسلامي ” و”الإرهاب الداخلي” هي العدو الرسمي في الخطاب العسكري والإعلامي.

بلغ هذا التحول ذروته في مجزرتي رابعة العدوية والنهضة عام 2013، حيث استخدم الجيش نفس الأسلحة التي كان يفترض أن تواجه بها إسرائيل، ضد مواطنين مصريين عُزّل خرجوا للمطالبة بعودة الرئيس المنتخب الشهيد الدكتور محمد مرسي.
وقد وصف محللون غربيون هذه اللحظة بأنها “القطع النهائي بين الجيش والشعب”، بعد أن صار جيش الشعب أداة النظام.

السيسي.. من التحالف مع واشنطن إلى حماية إسرائيل

في ظل حكم  المنقلب عبد الفتاح السيسي، بلغت التبعية السياسية والعسكرية للولايات المتحدة وإسرائيل مستوى غير مسبوق. فبينما يتفاخر السيسي في خطاباته بأنه “يحمي أمن إسرائيل”، يعترف في مشهدٍ مهين بعجزه عن إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، رغم أن القانون الدولي يمنحه هذا الحق، بصفته قائدًا لبلدٍ يجاور القطاع ويملك سيادة على حدوده.

هذا العجز المزعوم، في نظر المراقبين، ليس إلا خضوعًا سياسيًا متعمّدًا، يؤكد أن نظام السيسي ليس امتدادًا لجيش أكتوبر، بل امتدادًا لتحالف إقليمي يهدف إلى تجفيف كل مظاهر المقاومة وتفريغ مصر من دورها التاريخي كداعمٍ للقضية الفلسطينية.

من جيش النصر إلى اقتصاد المعونة

التحول البنيوي في الجيش لم يتوقف عند العقيدة فقط، بل امتد إلى الاقتصاد. فبدلاً من الاستثمار في التصنيع العسكري والبحث العلمي، انخرطت المؤسسة العسكرية في مشاريع مدنية مربحة، من الطرق والمصانع إلى المشروعات السياحية، حتى أصبحت تسيطر على ما يقدّره خبراء الاقتصاد بنحو 50 إلى 60% من الاقتصاد المصري، في ظل غياب الشفافية والرقابة البرلمانية.

هذا التغلغل الاقتصادي جعل الولاء السياسي للنظام مرتبطًا بالمصالح، لا بالعقيدة، وحوّل الجيش إلى كيان مغلق يحمي امتيازاته أكثر مما يحمي حدود الوطن.

صفقة سياسية  واقتصادية

حرب أكتوبر كانت ملحمة صنعها المجندون البسطاء بإيمانهم بالله ووطنهم، لكن قيادات ما بعد النصر، من السادات إلى السيسي، حولت تلك الملحمة إلى صفقة سياسية واقتصادية أفقدت الجيش روحه الوطنية.

واليوم، وبينما تمر الذكرى الـ52 على الحرب، يرى كثير من المصريين أن أعظم معركة تنتظر الجيش المصري ليست ضد عدو خارجي، بل من أجل استعادة عقيدته الأصلية، واستقلال قراره الوطني، وعودته إلى صف الأمة لا صف الطغاة.