هروب صامت من الثانوية العامة: كيف دفعت «البكالوريا المصرية» آلاف الطلاب إلى التعليم الفني؟

- ‎فيتقارير

في مشهد تعليمي مرتبك، تتسارع وتيرة هروب طلاب الإعدادية من مسار الثانوية العامة إلى التعليم الفني، ليس بدافع القناعة، بل هربًا من نظام تعليمي بات مُثقلًا بالتجارب الفاشلة والقرارات المفاجئة، كان آخرها فرض ما يُعرف بـ«نظام البكالوريا المصرية» الذي فتح باب الامتحانات المتكررة مقابل رسوم مالية، في ما يراه مراقبون «خصخصة مقنّعة لحق التعليم».

 

القرار، الذي فُرض دون حوار مجتمعي حقيقي، وضع ملايين الأسر أمام معادلة قاسية: إما الاستمرار في نظام يسمح بإعادة المحاولة لمن يملك المال، أو التوجه لمسارات بديلة أقل تكلفة، وإن كانت أقل حظًا اجتماعيًا ومهنيًا.

 

أرقام تكشف حجم التحول

 

بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد طلاب التعليم الفني في العام الدراسي 2022 – 2023 نحو 2.25 مليون طالب، موزعين على:

 

1.05 مليون طالب بالتعليم الصناعي

 

925 ألفًا بالتعليم التجاري

 

269 ألفًا بالتعليم الزراعي

 

وهي أرقام تعكس تحوّلًا اجتماعيًا واسعًا، لم يكن نتيجة استراتيجية تنموية مدروسة، بقدر ما هو نتاج انسداد الأفق داخل منظومة الثانوية العامة.

 

البكالوريا… نظام يُكافئ القادرين ويُقصي الفقراء

 

يسمح نظام البكالوريا الجديد بإعادة الامتحانات أكثر من مرة مقابل رسوم، تحت شعار «تحسين الفرص»، لكنه عمليًا:

 

يفتح باب النجاح لمن يملك المال

 

يعمّق الفجوة بين الطبقات

 

يحوّل التعليم إلى «خدمة مدفوعة»

 

ويُجرّد مبدأ تكافؤ الفرص من مضمونه

 

يرى تربويون أن النظام الجديد لا يقيس قدرات حقيقية، بل يُكافئ من يستطيع الدفع، بينما يُجبر محدودو الدخل على البحث عن بدائل أقل كلفة، حتى إن كانت أقل ضمانًا لمستقبلهم.

 

التعليم الفني.. ملاذ اضطراري لا اختيار واعٍ

 

تضم مصر ثلاثة مسارات رئيسية للتعليم الفني: الصناعي، والتجاري، والزراعي، إضافة إلى التعليم الفندقي والتكنولوجي. ورغم أهميته النظرية لسوق العمل، لا يزال هذا المسار يعاني من:

 

نظرة مجتمعية دونية

 

ضعف كبير في فرص الالتحاق بالجامعات

 

قيود قاسية على الترقي الأكاديمي

 

تهميش في سوق العمل لصالح حملة الثانوية العامة

 

ويؤكد أستاذ التربية بجامعة عين شمس، الدكتور محمد عبد العزيز، أن التعليم الفني ضروري لأي دولة تسعى للتصنيع، لكن المشكلة في مصر تكمن في:

 

غياب الربط الحقيقي بسوق العمل

 

انسحاب الدولة وترك المجال للقطاع الخاص

 

توسع الجامعات الخاصة على حساب فرص الفقراء

 

طلاب بين النجاح المحدود والندم

 

نجح بعض الطلاب في اختراق السقف المغلق، مثل:

 

عمرو فتحي، الأول على الصناعي في الإسماعيلية بنسبة 99.5%، والذي التحق بالجامعة بمجهود أقل من الثانوية العامة.

 

أميرة مصطفى، التي حصلت على معدل مرتفع في التعليم التجاري، والتحقت بكلية التجارة مستفيدة من التدريب البنكي المبكر.

 

لكن في المقابل، تظهر شهادات صادمة:

 

يمنى أيمن تصف التجربة بـ«القاسية والمضللة» وتقول إن أبواب التعليم الجامعي بعد التعليم الفني «محدودة ومحبطة».

 

كريم أشرف يؤكد أن معظم الوظائف تشترط الثانوية العامة، ما يفرغ المدارس الفنية من قيمتها العملية.

 

ميادة عادل روت كيف دفعت مصروفات كبيرة دون أي عائد حقيقي، لتنتهي ابنتها بلا جامعة ولا عمل.

 

التعليم بين الاستثمار والجباية

 

يرى معارضون أن ما يحدث ليس تطويرًا للتعليم، بل إعادة تصميم لمنظومة تعليمية تُراكم أعباء مالية على الأسر:

 

رسوم امتحانات

 

مصروفات معاهد

 

مقابلات واختبارات

 

تعليم خاص وأهلي

 

في المقابل، تتراجع جودة المدارس الحكومية، ويُدفع الفقراء دفعًا إلى التعليم الفني، ليس كخيار وطني للإنتاج، بل كـ«حل اضطراري» خارج حسابات العدالة الاجتماعية.

 

تعليم بلا عدالة… ومستقبل معلق

 

ما يجري اليوم ليس مجرد هروب طلاب من الثانوية العامة، بل انسحاب طبقي جماعي من منظومة لم تعد عادلة. وفي ظل غياب رؤية وطنية حقيقية تربط التعليم بالإنتاج، تتحول البكالوريا من مشروع تطوير إلى أداة فرز اجتماعي، ويظل التعليم الفني محاصرًا بنظرة دونية وفرص محدودة.

 

وبين هذا وذاك، يدفع الطالب المصري الثمن وحده:

إما تعليم مكلف بلا ضمانات،

أو تعليم فني بلا اعتراف مجتمعي كافٍ،

وفي الحالتين… مستقبل يُدار بالأقساط لا بالكفاءة.