بعد نحو 80 عاما، عودنا الراحل حلمي محمد القاعود (1946-2025) الذي ارتقى للقاء ربه في 13 مايو الجاري مَكفيّا ومُوفيّا، والذي لطالما فضّل أن يضع قلمه في الصحف والمواقع والمنصات الإسلامية ومنها "بوابة الحرية والعدالة" وموقع "إخوان أونلاين" ومن قبلهما جريدتي (آفاق عربية) و(الأسرة العربية) و(الشعب) ومجلة (لواء الإسلام) وغيرها الكثير، بسيل من المداد لا يتوقف فقط عندنا بل ملأ به الكثير من الأوعية الإعلامية النافعة، ومنها إذاعة القرآن الكريم، ومنها نعاه د.محمود خليل الرئيس السابق بها وقال : "بالأصالة عن نفسي ، وبالنيابة عن إذاعة القرآن الكريم ، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية، أنعي إلى العالم الإسلامي هذا الركن الركين من مسيرة الأدب والفكر والثقافة والوعي الإسلامي المعاصر، برحيل الكاتب المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور حلمي القاعود (١٩٤٦- ٢٠٢٥) تقبله الله في السابقين ، ورفع درجته في المهديبن، وإلى كتابة لاحقة تليق بالراحل الفذ العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون".
أما زميله الإذاعي الشهير رجب خليل فقال: "لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بقدر، وداعا دكتور حلمي محمد القاعود، وداعا فارس الكلمة وحكيم الأمة، وداعا صاحب (قصة في حديث) مضيفا "تأخرت قليلا في نعي أستاذنا الراحل إلى عالمنا العربي والإسلامي، فقد كنت أسابق الزمن حتى أتمكن من إدراك صلاة الجنازة وتشييعها بعد عصر اليوم بقريته(المجد) مركز الرحمانية محافظة البحيرة، حينما نودّع رجلا بحجم وقيمة راحلنا الكريم فإننا نودع مُثقفا قديرا، تاريخه تاريخٌ لحياتنا الأدبية والفكرية في صورتها الصادقة، كان راحلنا الكريم صحفيا محترفا، وناقدا مبدعا وأديبا بارعا ومفكرا جامعا بين الأصالة والمعاصرة.".
وأضاف "خليل"، "كان الدكتور القاعود يرحمه الله أول ضيف أستضيفه في برنامجي الأشهر (قصة في حديث) وظل معي كأحد الضيوف منذ العام ١٩٩٣ وحتي توقف البرنامج في العام ٢٠١٤.فكان بحق من أكثر من أثروا البرنامج بحلقاته المتميزة وطرحه الطيب فهو أديب وقصاص، يستنبط الدروس المستفادة بوعي وخبرة منقطعة النظير، وكان غالبا ما يضيف شيئا في كل حلقة من حلقات البرنامج لربط الموضوع بحياتنا المعاصرة وقضايا الأمة ".
وأوضح أن "هذه الحلقات الإذاعية (قصة في حديث) جمع بعضها راحلنا الكريم في كتاب من أربعة أجزاء أسماه(قصة وحديث) طبعته مكتبة دار الصحابة بطنطا بجوار مجمع محاكم طنطا،والكتاب مازال مطروحا لمن يريد، رحم الله فقيدنا الغالي وأسكنه فسيح جناته بقدر دفاعه عن هوية الأمة ونصحه لهذا الدين.
الأستاذ مجدي أحمد حسين رئيس تحرير جريدة الشعب نعاه قائلا: "البقاء لله رحل صباح اليوم عن عالمنا الأخ العزيز والكاتب الكبير الذي تمكنت مؤخرا من حسن حظي من زيارته في قرية المجد بمركز الرحمانية بالبحيرة ، وقد كان رفيق درب عبر السنوات من خلال كتاباته في جريدة الشعب نسأل له الجنة ولأسرته الصبر والسلوان وعزائي الخاص لنجله الزميل الدكتور محمود الذي يسير على دربه بإذن الله".
وكان للراحل السبق في المشاركة في حرب أكتوبر المجيدة، ونشر صوره وهو مجند مشارك في تحرير سيناء من رجس العدو المجرم كأحد المشاركين في حرب السادس من أكتوبر والذي قضى فترة خدمته سبع سنوات (1967-1974م)
الأديب السعودي د. محمد أبوبكر حميد عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، قال عبر صفحته: "رحم الله الأديب الكبير حلمي محمد القاعود وطيّب ثراه وجعل الجنة مثواه ، عاش حياته مخلصا لرسالة قلمه النظيف، لم يتزلف به، ولم ينافق، ولم يقل غير ما يؤمن ويعتقد، عاش في الأضواء سنوات، فلما لم يجد في الدنيا الناس ما يتفق مع مبادئه عاف الأضواء واعتزل الحياة وما يتقاتلون عليه من شئون دنياهم وانسحب الى قريته يكتب في صمت حتى وافته المنية صابرا محتسبا لا يبتغي غير مرضاة ربه وحده ، جمعتني بي الأهداف النبيلة والمبادي السامية وعرفته عن قرب لعدة سنوات في الرياض عندما كان يعمل في إحدى كلياتها في أوائل التسعينات الميلادية رحمه الله".
أما الكاتب الصحفي صلاح الإمام وعبر فيسبوك فقال: "أنعى لكم علما وعلامة ومفكرا وأديبا وناقدا من الوزن الثقيل، أحسبه آخر العمالقة في الفكر والأدب والنقد ، رحل اليوم العلامة النابغة الدكتور حلمي القاعود (79سنة) بعد رحلة عطاء عظيمة أثرى فيها المكتبة العربية بأكثر من مائة مؤلف فى الفكر والأدب والنقد والتحقيق والإنتاج الروائي والقصصي، بجانب مقالاته العظيمة التى كان ينشرها في أكبر الصحف والمجلات المصرية والعربية، وهو قبل ذلك أستاذ جامعي تخرج من تحت يديه الآلاف فى مصر وخارج مصر .".
وأضاف "فى صيف عام 2011 كلمنى المفكر الكبير والكاتب المبدع الدكتور محمد عباس، وأخبرني بأني معزوم معه في منزل الدكتور حلمي القاعود، وأن العزومة سيكون فيها نخبة راقية من الكتاب والمفكرين.
كان من المعزومين معي الصديق الحبيب الصحفي والكاتب الكبير عامر عبدالمنعم الذي رافقني في سيارتي، واتجهنا أولا إلى فيلا الدكتور محمد عباس بشارع بطرس بمدينة طنطا، وكان قد سبقنا الدكتور إبراهيم عوض والدكتور خالد فهمي والدكتور عاصم النبوي الأستاذ بهندسة شبين الكوم، وتناولنا إفطارنا عند الدكتور عباس سندوتشات فول وطعمية وبطاطس من أشهر مطعم في طنطا واسمه (الجعان) ..".
وأشار إلى أنه "بعد الفطار توجه جمعنا فى ثلاث سيارات كل سيارة بها أربعة، وقطعنا مسافة طويلة حتى وصلنا لمنزله بقرية المجد التابعة لمركز الرحمانية بمحافظة البحيرة، ووجدت عنده جمعا آخر من الكتاب النابهين أصحاب الفكر الرشيد ، كان جمعا عظيما قرابة 15 مثقفا، وكان قد مضى على سقوط مبارك حوالي 3 شهور، فكانت جلستنا عبارة عن أحلام بُحنا بها وظننا وقتها أنها ستتحقق، وكان المناخ وقتها يسمح لنا بأن نحلم ونبوح بأحلامنا ..".
وتابع: "تناولنا غذاءنا وكانت مأكولات بحْرية بكميات وفيرة جدا، وبعد المغرب افترقنا كما جئنا كل مجموعة كما هي، التقيته بعد ذلك في 2012 بعدما طلبته ليحل ضيفا في برنامج "مصر الجديدة" الذي كنت أتولى رئاسة تحريره فجاء ومعه ابنه محمود، ومحمود هذا نابغة زمنه، وقد حصل على الماجستير ثم الدكتوراه في زمن قياسي، وهو صاحب قلم مميّز جدا، يبهرك بإبداعاته وله إنتاج أدبي وروائي مميز جدا، وهو من أحب الناس إلىّ.
ومنذ العام 2012 لم ألتقه، لكن كان هناك تواصل خفيف بيننا، وكنت أقرأ أولا بأول مقالاته التي كان يرسلها لي على بريدي الخاص حتى سنوات قليلة مضت..".
وكتب "الإمام"، "تابعت خلال الأيام الماضية ماحلّ به من مرض، ثم انتقاله للمستشفى وكنت قلقا عليه حتى فجعت من لحظات بخبر وفاته، رحم الله الدكتور حلمي وجعل كتاباته في ميزان حسناته، وخالص العزاء لابنه الدكتور محمود القاعود، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ترجمة القوصي
والصحفي محمد عبدالشافي القوصي أحد كبار المتخصصين في الكتابة للمجلات كمجلة الفيصل واليمامة والوعي الإسلامي وغيرها، كان قد كتب مقالا عن د. حلمي محمد القاعود في 5 أغسطس 2020 بعنوان (حلمي القاعود كما عرفته ).
وقال: "قبل نصف قرن من الزمان؛ جاء به محمد فريد أبو حديد من قريته بمحافظة البحيرة، وألقى به في أتون العاصمة؛ فتعلَّق بالفن الراقي، ثمَّ تعمَّق عشقه بالأدب الرفيع، وبلغ ذروته عندما عمل مع الناقد الكبير (عبده بدوي) في مجلة "الشِّعر" هذا إلى جانب دراسته بدار العلوم على أيدي الأكابر، أمثال: الطاهر مكي، وتمام حسان، فرسم طريقه على هدي جيل الأساتذة؛ وسار على نهجهم، فلمْ يُصالح، ولمْ يُداهن، ولمْ يُجامل.. بلْ ظلَّ مرابطاً في موقعه، مقاتلاً في ثغره، يطلق خيله بضراوة، ويسدِّد رميه بمهارة، حتى زلزل خصومه زلزالاً شديداً".
وأضاف "لقد واجه "الماركسيين" وأبلى فيهم بلاءً حسنا، ونازل "التغريبيين" وأسقط أقنعتهم الزائفة، وداس على "السلفيين" وجعلهم مضحكةً للعالمين.
أجل، لقد تصدَّى ـ ولا يزال – لليساريين، والناصريين، والغوغائيين، والمهرِّجين، والمبهرجين، والمجدِّفين، وسائر الأقزام، وربائب الأنظمة القمعية.
إنه البروفيسور الناقد الأديب (حلمي القاعود) الذي شخّص الواقع الثقافي الراهن بدقة متناهية، فقال: إنَّ "الواقع الأدبي المعاصر امتلأ بالكثير من المتناقضات التي أدت إلى اختلال المعايير، نتيجة لتراكمات عديدة؛ جعلت أصحاب المواهب الحقيقية بعيدين عن مجال التقدير والإنصاف، وفي الوقت ذاته أتاحت الفرصة لعديمي الموهبة وطلاب الشهرة أنْ يحتلوا الواجهة الأدبية، ويلقوا من الحفاوة والدعاية ما لا يستحقونه".
وتابع، " لقد أعلن (حلمي القاعود) ولاءه لدينه، عندما اختار موضوع رسالته للدكتوراه، بعنوان (مُحمَّد ﷺ في الشِّعر العربي الحديث) وأعلن ولاءه لأمته عندما ألَّف كتابه "القصائد الإسلامية الطوال في الشِّعر الحديث". وأعلن ولاءه لحضارته عندما ألَّف كتابه "الأدب الإسلامي الفكرة والتطبيق"، وأعلن عن هويته عندما ألَّف كتابه "الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني".
وأردف، " امتطى جواده، واستلَّ سيفه، وألقى به فوق رأس الأفعى، وأخرج كتابه الشهير "لويس عوض: الأسطورة والحقيقة"، ثمَّ انهال على أرطبون الحداثة، وأصدر كتابه "التنوير: رؤية إسلامية"، ثمَّ هدم معبد الحداثة على مَن فيه، وأصدر كتابه "الورد والهالوك: شعراء السبعينيات في مصر"؛ الذي امتعض منه عبيد الفرانكفونية، وغلمان السكسونية، وغيرهم من ثمرة الحمل السِفَاح".
ورأى أن حلمي القاعود "لمْ يتوقف عن المنازلة لحظةً واحدة ، لأنه يشعر بأنَّ أرضه سليبة، ومقدساته منتهكة، وتاريخه مسروق من قِبَل العصابات الماركسية والعلمانية، وإخوانهم من الرضاعة.
هذا؛ وقد نشر مئات المقالات، وعشرات الأبحاث، كما أمطر المكتبات بوابلٍ من الكتب الجديرة بالاقتناء، مثل: مدخل إلى البلاغة القرآنية، النقد الأدبي الحديث، الرواية التاريخية في أدبنا الحديث، إنسانية الأدب الإسلامي، الوعي والغيبوبة دراسات في الرواية المعاصرة، مسلمون لا نخجل، أهل الفن وتجارة الغرائز، جاهلية صدام وزلزال الخليج، واسلمي يا مصر، وغيرها.".
ووصف مقالاته أنها "الهاطل العرِمِ من المقالات والمؤلفات؛ يكشف عن مدى حبه للحياة، ومدى تفاؤله بالمستقبل؛ على الرغم من كثافة الحجب، وكثرة الأسلحة، وضراوة الخصوم".
ونقل عنه قوله: "يقول حلمي القاعود: "إنه بالرغم من ذلك، فإنَّ جيل الصحوة استطاع أن يستعيد هوية الأمة، وكتّاب الرواية الإسلامية يملكون وعياً حاداً بالواقع والتاريخ ويستشرفون المستقبل ويواجهون تحديات الهيمنة العلمانية واليسارية والطائفية التي تترصد التوجه الإسلامي وتحاربه بضراوة وبخاصة في مجالات الفكر والأدب، وكان في طليعة هؤلاء الرجال محمد فريد أبو حديد، وعلي أحمد باكثير، ونجيب الكيلاني، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وعماد الدين خليل، وغيرهم الذين حولوا الأدب الإسلامي إلى واقع عملي يعبِّر عن نفسه في تطبيقات ميدانية، جعلت من الرواية الإسلامية أمراً واقعاً يتحدى المعارضين، ويرغمهم على الاعتراف بوجودها وكيانها".
وعن تفنيده لشبهات وأباطيل أضاف لمعركته مع الماركسيين والعلمانيين واليساريين المتأمركين؛ أنه "لمْ ينسَ أنْ يصفع أدعياء السلفية؛ الذين أطلق عليهم لقب "أصحاب الِّلحى التايواني" بعدما تسابقوا لتقبيل أحذية أسيادهم ، ليعلم الجميع أنَّ "أصحاب الِّلحى التايواني" خُدَّام القمع والفساد… فسوف يعلمون!.. هذا؛ وعلى الرغم من النيران التي أشعلها حلمي القاعود في نعش الحداثة، وفي أوكار العلمانية؛ إلاَّ أنَّ ذلك لم يَحُلْ بينه وبين انتزاع أثمن الجوائز الأدبية بجدارة .. وبعزَّة نفس!.. فقد حاز ـ مؤخراً- على جائزة النقد الأدبي من المجلس الأعلى للثقافة عن كتابه "تطور الشِّعر العربي"، كما حاز ـ من قبل- على جائزة مجمع الخالدين، وجائزة المجلس الأعلى للثقافة … فطوبى له وحسن مآب.