تشهد مصر واحدة من أخطر أزماتها الاستراتيجية في تاريخها الحديث، وهي أزمة ندرة المياه التي تتحول إلى "بقاء مائي" يومي، مع تراجع نصيب الفرد إلى 550 مترًا مكعبًا سنويًا، أقل من حد الفقر المائي المحدد عالميًا عند 1000 متر مكعب. في خطوة وصفها خبراء بأنها تمهيدية لمواجهة خفض غير مسبوق في حصتها من نهر النيل، شرع نظام المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي في رفع أسعار مياه الشرب والصرف الصناعي بمعدلات متكررة، وفرض رسوم باهظة على تركيب طلمبات رفع المياه، بما يضغط على المواطنين والمزارعين للتقليل من الاستهلاك.
ويأتي هذا الإجراء في سياق ما يراه مراقبون خيانة من السيسي لاتفاقية المبادئ مع إثيوبيا، التي مكنت الأخيرة من تمويل بناء سد النهضة، بدعم مالي مباشر من دول عربية مثل الإمارات، في خطوة يرى الكثيرون أنها خدمة للمصالح الإسرائيلية على حساب الأمن المائي المصري. النتيجة المتوقعة: خفض حصة مصر من مياه النيل إلى مستويات غير مسبوقة، لتصبح البلاد على أعتاب أزمة مائية هي الأخطر منذ عقود.
تشير تقديرات خبراء المياه إلى أن مصر، التي يبلغ عدد سكانها نحو 108 ملايين نسمة، تعتمد على نهر النيل لتوفير 90% من احتياجاتها، بما يعادل 55 مليار متر مكعب سنويًا. مع استمرار إثيوبيا في تشغيل سد النهضة، تواجه القاهرة صعوبة بالغة في توفير التمويل اللازم لمشروعات تحلية المياه وإعادة تدوير الصرف الصحي، بالإضافة إلى استخراج المياه الجوفية لتغطية العجز المتوقع.
وأكد البروفيسور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة، أن مصر تقع ضمن نطاق دول الفقر المائي، ومع استمرار تراجع الحصة السنوية للفرد ستدخل البلاد مرحلة الشح المائي الحقيقي. وأضاف: "المواطن لم يشعر حتى الآن بخطورة الوضع بسبب الاعتماد على المخزون الهائل في بحيرة ناصر، لكن هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تستمر مع خفض حصتنا الفعلية من مياه النيل".
ويشير نور الدين إلى أن الحكومة وضعت خططًا لإنشاء 17 محطة لتحلية مياه البحر قبل عام 2030، لكنها تواجه عراقيل مالية ضخمة، مع ارتفاع تكلفة المتر المكعب إلى 25 جنيهًا، إلى جانب مشروعات إعادة استخدام مياه الصرف ومعالجة الترع لتقليل الفاقد، وتقليل الزراعات المستهلكة للمياه، مثل الأرز وقصب السكر، والاعتماد على الصوب الزراعية والري بالتنقيط، إلا أن تعثر التمويل وارتفاع تكاليف المعدات يعيق تنفيذها بالشكل المطلوب.
من جهته، يرى خبراء الري أن ما يقوم به السيسي من رفع أسعار المياه ليس مجرد سياسة اقتصادية، بل تحضير سياسي ومائي لتقليل الاستهلاك قبل أن يفرض خفض حصة مصر من نهر النيل، نتيجة توقيع الاتفاقية المثير للجدل مع إثيوبيا، التي تتجاهل حقوق القاهرة في إدارة المياه. ويؤكد الخبراء أن غياب الشفافية في ملف سد النهضة، وغياب اتفاق قانوني ملزم، يجعل مصر معرضة لخطر جفاف كارثي في السنوات المقبلة، مع عدم قدرة السلطات على تغيير أنماط الاستهلاك أو تمويل مشروعات كبرى لتحلية المياه بكفاءة.
بهذا الشكل، تتحول أزمة المياه في مصر إلى ساحة للصراع بين المواطن البسيط، الذي يدفع ثمن سياسة السيسي المتهورة، وبين الحكومة التي تواصل خيانة الأمن المائي الوطني، وتترك الشعب المصري لمواجهة كارثة لم يشهدها منذ عقود، على خلفية اتفاقات محفوفة بالمصالح الخارجية على حساب الشعب والموارد الوطنية.