تصّر الإمارات على دور قذر في السودان من خلال دعمها المليشيات الانفصالية (الدعم السريع)، بينما تميل مصر ميلا تقليديًا إلى الجيش السوداني المنافس التقليدي لكل قوى الانفصال، إلا أن سقوط الفاشر جعل مصر أمام مفترق طرق استراتيجي، إما أن تبقى في ظل الإمارات، أو أن تعيد صياغة دورها الإقليمي بشكل مستقل، وكل سيناريو له ثمنه، لكن القاسم المشترك هو أن القاهرة ترى أن تفكك السودان خطر مباشر على أمنها القومي، ما يجعل التحرك واجبًا مهما كان شكله.
وهذا التناقض يضع القاهرة أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية للتعامل مع الملف السوداني بعد الفاشر.
وهو بحسب خبراء إما (الاستمرار في التنسيق مع الإمارات) حيث تبقى مصر ضمن دائرة التنسيق مع أبوظبي، ومحاولةً التأثير من الداخل على الموقف الإماراتي للحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية القوية بين القاهرة وأبوظبي.
وهو ما يضعف قدرة مصر على دعم الجيش السوداني، ويجعلها تبدو تابعة لسياسات الإمارات في الإقليم.
أما السيناريو الثاني فهو (الخروج الجزئي من بيت الطاعة الإماراتي) من خلال رسم مصر مسافة مع الإمارات، مع تعزيز التنسيق مع تركيا وقطر وربما السعودية، دون قطيعة كاملة وهو ما يمكن أن يمنح القاهرة هامش مناورة أكبر، ويتيح لها لعب دور الوسيط بين الأطراف السودانية وقد يثير توترًا مع أبوظبي، ويؤدي إلى خسارة بعض الدعم المالي والاستثماري.
والسيناريو الثالث وهو مستبعد برأي خبراء (الخروج الكامل والتموضع المستقل) بأن تتبنى مصر سياسة مستقلة تمامًا، تركز على حماية أمنها القومي عبر دعم الجيش السوداني سياسيًا وربما لوجستيًا، مع بناء تحالفات جديدة بعيدًا عن الإمارات ما يعيد لمصر دورها التقليدي كضامن لاستقرار السودان، ويمنحها استقلالية في القرار الإقليمي.
وهذا السيناريو يرى متابعون أنه مكلف اقتصاديًا وسياسيًا، وقد يفتح مواجهة غير مباشرة مع الإمارات الداعمة لقوات الدعم السريع.
هزة عنيفة
وبحسب تقرير لموقع (مدى مصر) ونشرته عبر @MadaMasr أن سقوط الفاشر أحدث هزةً عنيفةً في أروقة صنع القرار بالقاهرة، ما دفع المسؤولين والمستشارين لعقد سلسلة من الاجتماعات المكثفة لتحديد ما إذا كان ينبغي توسيع التدخل المصري في السودان لإنقاذ الجيش هناك، أم أن الأوان قد فات بالفعل؟، فما القرار الذي انتهوا إليه؟ اقرأ كيف توازن مصر بين علاقاتها بالإمارات وتنسيقها مع تركيا، بينما تسعى إلى توسيع تدخلها في السودان لضمان وقف لإطلاق النار.
واعتبر تقرير (مدى مصر) أن سقوط الفاشر كشف أن القاهرة تعيش حالة ارتباك استراتيجي، حيث ناقش المسؤولون إمكانية توسيع التدخل المصري في السودان لدعم الجيش، لكن القرار النهائي اتجه نحو التحرك الدبلوماسي المكثف بدلًا من التدخل العسكري المباشر، مع محاولة الموازنة بين علاقاتها بالإمارات وتنسيقها مع تركيا لضمان وقف إطلاق النار.
واعتبر التقرير أن سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع لم يكن مجرد حدث عسكري، بل نقطة تحوّل كبرى في الحرب السودانية، إذ مثّل انهيار آخر خطوط الجيش في دارفور، حيث داخل المدينة، أكثر من 800 ألف مدني عالقون بين القصف والمجاعة والانتهاكات، وسط انهيار شبه كامل للبنية الصحية والإنسانية.
وأضاف أن هذا التطور أحدث هزة عنيفة في القاهرة، حيث عقدت اجتماعات مكثفة لبحث ما إذا كان التدخل المصري لإنقاذ الجيش السوداني ما زال ممكنًا أم أن الوقت قد فات، موضحا أن القرار المصري اتجه نحو التركيز على المسار السياسي والدبلوماسي، عبر الضغط لوقف إطلاق النار، بدلًا من الانخراط العسكري المباشر الذي قد يجر مصر إلى مستنقع طويل.
وأشار التقرير إلى أن الهدف المصري المعلن هو الحفاظ على وحدة السودان ومنع تفككه، لأن أي انهيار كامل للدولة سيؤثر مباشرة على الأمن القومي المصري وحدوده الجنوبية، ولذلك تحاول تبني السيناريو الثاني وبمحاولة الموازنة بين علاقاتها بالإمارات (التي تدعم قوات الدعم السريع) وتنسيقها مع تركيا (التي تميل إلى دعم الجيش السوداني)، لتجنب خسارة أي من الشريكين الإقليميين.
دلالات القرار المصري
واعتبر التقرير أن التحرك المصري يظل محكومًا بميزان دقيق بين التحالفات الإقليمية، حيث أي انحياز لطرف قد يضر بعلاقاتها مع شركاء استراتيجيين. وحصر التقرير السيناريوهات في:
التصعيد الدبلوماسي المكثف لفرض وقف إطلاق النار.
التدخل غير المباشر عبر دعم الجيش السوداني لوجستيًا واستخباراتيًا.
الانكفاء الحذر مع التركيز على حماية الحدود المصرية ومنع تدفق اللاجئين.
ووفق السيناريو الأول تتحرك فيه مصر عبر الوساطات الإقليمية والدولية لإقناع الأطراف بوقف إطلاق النار، وتنسق مع تركيا والإمارات لتجنب خسارة أي من الشركاء الاستراتيجيين للحفاظ على وحدة السودان ومنع تفككه، دون الانخراط العسكري المباشر.
أما سيناريو (التدخل غير المباشر) فيتمثل برأي التقرير في دعم الجيش السوداني عبر تدريب، وتسليح محدود، ومعلومات استخباراتية لإعادة التوازن الميداني دون إعلان تدخل رسمي، وهو السيناريو المتبع على ما يبدو أتاح لمصر الحفاظ على نفوذها في السودان، مع تقليل المخاطر المباشرة، إلا أنه
يضعها في مواجهة غير مباشرة مع القوى الداعمة لقوات الدعم السريع مثل الإمارات.
السيناريو الثالث: الانكفاء الحذر
وتركز مصر لفيه على حماية حدودها الجنوبية ومنع تدفق موجات لجوء ضخمة. وتعزز الوجود العسكري على الحدود مع السودان، مع مراقبة التطورات عن قرب وهذا السيناريو يعني أن القاهرة ستتعامل مع الأزمة باعتبارها تهديدًا أمنيًا خارجيًا، لا ساحة نفوذ سياسي. ويحمل السيناريو مخاطر فقدان مصر لدورها التقليدي كـ"ضامن" لاستقرار السودان.
مصر مضطرة لاتباع السيناريو الأول
الأكاديمي بجامعات الولايات المتحدة وقطر د.خليل العناني رأى أن سقوط الفاشر غيّر قواعد اللعبة بالنسبة لمصر، معتبرًا أن القاهرة لم تعد قادرة على الاكتفاء بسياسة الحياد أو المسافة الآمنة، بل أصبحت مضطرة إلى الانخراط الإجباري في الأزمة السودانية، سواء عبر الدبلوماسية أو عبر أدوات ضغط غير مباشرة، لأن تفكك السودان يهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر.
وأوضح "العناني" أن الحرب في السودان لم تعد أزمة داخلية، بل تحولت إلى عامل إقليمي يعيد تشكيل خرائط النفوذ وموازين القوى في المنطقة، مشيرا إلى أن سقوط الفاشر مثّل لحظة فارقة جعلت سيناريوهات تفكك السودان وانشطاراته الداخلية أكثر واقعية.
وشدد في تصريحات نقلتها (الترا صوت) على أن مصر لم يعد بإمكانها الاكتفاء بسياسة "الحياد المضبوط" أو "المسافة الآمنة"، لأن التطورات الميدانية تفرض عليها الانخراط الإجباري.
وأشار إلى أن القاهرة تجد نفسها أمام معادلة جديدة: إما أن تتحرك لحماية مصالحها وأمنها القومي، أو أن تواجه تداعيات انهيار السودان على حدودها الجنوبية.
خليل العناني يعتقد أن سقوط الفاشر أجبر مصر على تغيير استراتيجيتها من الحياد إلى الانخراط، لأن استمرار الأزمة دون تدخل سيؤدي إلى تفكك السودان، وهو ما تعتبره القاهرة خطًا أحمر لأمنها القومي.
العلاقة مع الإمارات
وكان الباحث في معهد كارنيجي للسلام يزيد صايغ وعبر @SayighYezid مركزا على تأثير التدخل المصري على علاقة القاهرة وأبوظبي، معتبرا أن تقرير مدى مصر "هام جداً عن تطور جديد في الحرب السودانية، و التنسيق العسكري المشترك المصري التركي على تعاون عملياتي على الأرض، إلى جانب إمدادات من السلاح والذخيرة إلى الجيش السوداني بشكل رئيسي، كيف سينعكس ذلك على العلاقة المصرية الإماراتية؟".
ووصف التقرير بأنه كاشف ومهم لأنه يوضح حجم القلق داخل دوائر صنع القرار في القاهرة بعد سقوط الفاشر. مشيرا إلى أن مصر تدرك أن التدخل العسكري المباشر محفوف بالمخاطر، خاصة مع ضعف الجيش السوداني وتعدد القوى الإقليمية المتداخلة.
وأكد أن القاهرة تحاول الموازنة بين علاقاتها بالإمارات (التي تميل لدعم قوات الدعم السريع) وتنسيقها مع تركيا (التي تساند الجيش السوداني)، وهو ما يجعل موقفها معقدًا للغاية.
وتوقع أن تدعم مصر بشكل غير المباشر للجيش السوداني (تدريب، معلومات، وربما تسليح محدود) دون إعلان رسمي إضافة لحماية الأمن القومي حيث حدود مصر الجنوبية ومنع تدفق اللاجئين، باعتبار أن انهيار السودان يمثل تهديدًا مباشرًا لها.
ومحاولة تجنب الانزلاق العسكري حيث رجح أن مصر لن تغامر بتدخل واسع، لأن ذلك قد يضعها في مواجهة مباشرة مع الإمارات أو يورطها في حرب طويلة.
واتفق يزيد صايغ مع خليل العناني من أن مصر مضطرة للتدخل بدرجة ما، لكن أدواتها ستكون سياسية ودبلوماسية أكثر منها عسكرية، الهدف الأساسي هو منع تفكك السودان، لأن ذلك سيؤثر مباشرة على استقرار مصر وأمنها القومي.
