يترقب القطاع الطبى بقلق ما أعلنت عنه وزارة الصحة بحكومة الانقلاب لطرح نحو 40 منشأة صحية أمام القطاع الخاص خلال الأشهر القليلة المقبلة في سياق قانون منح إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص،والتى تشمل بحسب مصادر حكومية، مستشفيات قائمة بالفعل في عدد من المحافظات، وعدد من المستشفيات قيد الإنشان بالمدن الجديدة،
خطة حكومة الانقلاب أثارت جدلًا واسعًا بين الأوساط الطبية والمجتمعية، كونها تأتي في سياق مطالب صندوق النقد الدولى بتعزيز دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة، خاصة في ظل التحديات التمويلية التي تواجهها الدولة.
وبينما تزعم حكومة الانقلاب أنها تسعى من خلال هذه الخطوة إلى تحسين جودة الخدمات الصحية، وجذب استثمارات جديدة للقطاع، وتخفيف العبء المالي عن الموازنة العامة، تتصاعد المخاوف بين المواطنين، خاصة محدودي الدخل، من تراجع فرص الحصول على العلاج المجاني أو المدعوم، وارتفاع تكلفة الخدمات الصحية.
فجوة صارخة
من جانبه قال الدكتور – محمد حسن خليل، منسق حملة الحق في الصحة، واستشاري أمراض القلب- : منذ صدور دستور يناير 2014، الذي ألزم دولة العسكر بتخصيص حد أدنى لا يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الحكومي على الصحة، كانت الآمال معلقة على تحسين منظومة الرعاية الصحية والاقتراب من المعايير الدولية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، والمقدرة بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل تقريبا 15% من الموازنة العامة لدولة العسكر إلا أن الواقع خلال السنوات الماضية كشف فجوة صارخة بين هذه الالتزامات الدستورية والواقع الفعلي للإنفاق، الذي ظل متدنيًا بل وتراجع في بعض الفترات.
وأضاف خليل في تصريحات صحفية : خلال الأعوام الثلاثة التالية لإقرار الدستور، ارتفع الإنفاق الحكومي على الصحة بشكل طفيف ليبلغ 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى الدستوري، قبل أن تعود النسبة إلى التراجع مجددًا مع تطبيق ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي عام 2016، الذي فرض سياسات انكماشية أضعفت المخصصات الاجتماعية، وفي مقدمتها الصحة.
وأكد أن أدنى مستوى للإنفاق الحكومي على الصحة كان في مشروع موازنة 2024-2025، حيث لم يتجاوز 1.17% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضئيلة للغاية، إذا ما قورنت بمتوسطات أفريقيا، أفقر قارات العالم، فضلا عن المعدلات العالمية، ما يعكس اختلالاً خطيرًا في أولويات الإنفاق العام.
وأشار خليل إلى أن هناك مشكلة أكثر عمقًا تتعلق بتركيبة مصادر التمويل الصحي في مصر، إذ يمثل الإنفاق الشخصي المباشر من جيوب المواطنين نحو 71% من إجمالي الإنفاق على الصحة، مقابل متوسط عالمي لا يتجاوز 19%، ما يعني أن المرض في مصر يتحول إلى عبء اقتصادي ثقيل يدفع الأسر نحو الفقر عند مواجهة أزمات صحية.
الرعاية الصحية
وشدد على أن مقومات الرعاية الصحية، شهدت تدهورًا ملحوظًا في مؤشرات توفر الأسرة بالمستشفيات والأطقم الطبية، ففي ستينيات القرن الماضي، بلغ عدد الأسرة 22 سريرا لكل عشرة آلاف مواطن، بينما تقلص هذا المعدل إلى 8.1 سرير فقط حاليًا، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 29 سريرا.
وأكد خليل أن الوضع ليس أفضل حالاً بالنسبة للأطباء والتمريض، حيث تراجعت النسب إلى نحو نصف المعدل العالمي، نتيجة الهجرة الواسعة للكفاءات الطبية إلى الخارج، هربًا من تدني الأجور، وضعف بيئة العمل، وصعوبة التدريب، وغياب الأمان الوظيفي. لافتا إلى أن الأرقام الرسمية تشير إلى وجود ما بين 120 إلى 150 ألف طبيب مصري يعملون بالخارج، وهو رقم يقارب إجمالي الأطباء العاملين داخل البلاد، ما ينذر بأزمة هيكلية في توافر الكوادر الطبية.
وحذر من أن هذا التوجه نحو خصخصة الرعاية الصحية، سواء عبر التأجير أو الشراكات مع القطاع الخاص، لا يعالج جوهر المشكلة المتمثلة في ضعف الإنفاق الحكومي، وتآكل البنية التحتية الصحية، ونقص الكوادر الطبية، بل قد يؤدي إلى مزيد من التمييز في فرص الحصول على العلاج، وتفاقم أزمة العدالة الصحية.
وأوضح خليل أنه رغم توسع مبادرات الكشف المبكر كحملة 100 مليون صحة، إلا أنها، تظل محدودة وأقرب إلى حملات دعائية موسمية، لا تُعالج جذور الأزمة المتعلقة بضعف النظام الصحي الشامل، وانعدام الاستدامة في توفير الخدمات. مؤكدًا أن مصر تمتلك إرثًا طبيًا عريقًا، لكن سياسات الخصخصة وضعف التمويل تجهض هذا التاريخ .
وطالب بضرورة العودة إلى مبادئ العدالة الصحية المنصوص عليها في دستور 2014، وضمان التزام دولة العسكر بتحمل المسؤولية الأساسية عن تمويل وتأمين العلاج لكل المواطنين بعيدًا عن المنطق الربحي.
الخدمات العلاجية
وأعرب الباحث في الشؤون الصحية كريم طارق عن مخاوفه من تداعيات خطة خصخصة المستشفيات، مشددًا على أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في مبدأ إسناد الإدارة للقطاع الخاص، بل في غياب الضمانات الواضحة التي تحمي حق المواطن في العلاج.
وقال طارق فى تصريحات صحفية: ان طرح أكثر من 40 مستشفى للقطاع الخاص، سواء من خلال الإدارة أو التشغيل، لفترات تتراوح بين ثلاث وخمس عشرة سنة، يجعل القطاع الصحى أمام مشكلتين رئيسيتين، موضحًا أن أولى هذه المشكلات تتعلق بعدم وضوح الآلية التي تضمن استمرار تقديم الخدمات العلاجية للمواطنين على نفقة الدولة داخل هذه المستشفيات بعد انتقال إدارتها إلى القطاع الخاص .
وأكد أنه لا توجد ضمانات حقيقية بأن تظل هذه المستشفيات ملتزمة بتقديم خدمات علاجية ميسّرة للفئات الأكثر احتياجًا، لافتا إلى أنه لا توجد أى جهة رقابية واضحة لمتابعة الأداء أو محاسبة المؤسسات الجديدة حال التقصير وأوضح طارق أن المشكلة الثانية، تتمثل في إمكانية تسريح العاملين داخل تلك المستشفيات بنسبة قد تصل إلى 75% من إجمالي القوى العاملة، استنادًا إلى تقدير الجهة المشغّلة، وهو ما يثير مخاوف مشروعة بشأن مصير هؤلاء الموظفين ومستقبلهم المهني، خاصة في ظل غياب أي خطط معلنة لتوفير بدائل لهم.
إنذار مبكر
وشدد على أن الاعتراض على خصخصة المستشفيات لا يستهدف فكرة إدارة القطاع الخاص للمستشفيات في حد ذاتها، بل ينصبّ على غياب الشفافية، وضعف الرقابة، وعدم وجود التزامات قانونية تضمن تقديم خدمات طبية محسّنة دون تحميل المواطن أعباء مالية إضافية.
وأشار طارق إلى تجربة مستشفى هرمل، التي شهدت، تأخيرًا في صرف الأدوية وتقديم العلاج للمرضى بعد التعاقد مع جهات خاصة لإدارتها، معتبرًا أن هذه الواقعة تمثل إنذارًا مبكرًا لما قد تشهده بقية المستشفيات إذا استمر التوسع في التخصيص دون ضوابط واضحة .
وكشف طارق أن هناك فجوة كبيرة في المعلومات الرسمية بشأن المستشفيات المطروحة للخصخصة، وعدد المرضى المستفيدين من العلاج المجاني فيها، وحجم الخدمات المقدّمة للفئات محدودة الدخل، لافتا إلى أن هذه العوامل تجعل من الصعب تقييم مدى تأثير بيع المستشفيات على المدى القريب، فضلًا عن استحالة قياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي قبل مرور فترة زمنية كافية، وهو ما يُعمّق المخاوف من غياب الرقابة وضعف المحاسبة .