بعد أكثر من عقدين من البناء والوعود، افتتح نظام عبد الفتاح السيسي المتحف المصري الكبير في حفل أسطوري عند سفح الأهرامات، حضره ملوك ورؤساء من مختلف القارات، إلا أن ما بدا في الصورة "إنجازاً حضارياً عظيماً"، يُخفي في جوهره حقيقة أخرى: متحف بلا روح، وعسكر بلا تاريخ.
فالمتحف الذي يُروّج له النظام كـ"أكبر متحف أثري في العالم"، لا يديره الأثريون، بل العسكريون. المدير التنفيذي للمتحف ليس من أبناء قطاع الآثار، وأمينه العام وعدد من القيادات العليا جميعهم من المؤسسة العسكرية، في سابقة تعكس كيف تحوّل المشروع الثقافي الأهم في مصر إلى ثكنة إدارية يديرها الجنرالات، لا العلماء، وكأن المتحف صُمم ليكون "نصباً للعسكر"، لا معبداً للحضارة.
ورغم المليارات التي أُنفقت، والعشرين عاماً التي استُهلكت في البناء والتشطيب والديكور، يبقى المتحف المصري الكبير خارج الساحة الرقمية العالمية. موقعه الرسمي فقير، خالٍ من المحتوى المعرفي أو السرد التاريخي، وحساباته على مواقع التواصل تكاد تكون ميتة. بينما في العالم، تُعدّ المتاحف الكبرى مراكز حية على الإنترنت، تقدم جولات تفاعلية ومعارض افتراضية تربط الزائر بتاريخ الإنسانية، فإن المتحف المصري الكبير ما زال خارج الزمن الرقمي، تماماً كما هي إدارة البلاد.
اللافت أن الموقع الرسمي للمتحف لا تُديره وزارة السياحة أو الآثار، بل شركة تابعة لوزارة المالية، ما يكشف عن الطابع التجاري والبيروقراطي الذي يُغلّف المشروع. أما المواقع غير الرسمية، فبدت أكثر حيوية ومهنية من الموقع الرسمي ذاته، وكأن "الجهات غير الحكومية" تفهم قيمة التاريخ أكثر ممن يُفترض أنهم حُماته.
وفي الوقت الذي يحتفي فيه النظام بـ"الإنجاز الهندسي"، يتجاهل حقيقة أن المتحف فقد هويته العلمية والثقافية، فلا حضور للأثريين في القيادة، ولا رؤية بحثية أو أكاديمية واضحة، ولا خطة لتوظيف التكنولوجيا لخدمة الوعي أو الثقافة. لقد تحوّل المتحف إلى ديكور ضخم يخدم الصورة الدعائية للنظام، تماماً كما تحولت العاصمة الإدارية إلى واجهة باهظة تخفي خلفها انهيار الخدمات العامة.
يقول أحد الخبراء في التقنيات الرقمية، رفض ذكر اسمه، إن المتحف "افتُتح على الأرض فقط، لكنه لم يُفتتح في العالم الرقمي"، مشيراً إلى أن "الوجود الافتراضي اليوم معيار رئيسي لنجاح أي مؤسسة ثقافية". بينما يرى مراقبون أن النظام الذي عسكر كل شيء — من الاقتصاد إلى الإعلام — لم يترك حتى التاريخ في حاله، فحوّل المتحف إلى مؤسسة بيروقراطية مغلقة، تُدار بالأوامر لا بالأفكار.
المفارقة أن النظام الذي يتحدث عن "إحياء الحضارة المصرية" هو ذاته الذي يقتل روحها، بإقصاء المتخصصين واحتكار القرار في أيدي ضباط لا يعرفون من التاريخ سوى كيف يُستخدم في التجميل السياسي. وهكذا، يقف المتحف المصري الكبير اليوم شاهداً على مفارقة عصر السيسي: مبانٍ عملاقة… بلا معنى.
