جبر الخواطر ومزية العطاء

- ‎فيمقالات

فى مناسباتنا الإسلامية تظهر -عادة- أصالة هذه الأمة، وخيريتها، رغم ما يعتريها من ضعف ووهن. ولقد مرَّت أمامى عدة مشاهد خلال يوم واحد، هو يوم العيد، تثبت هذه الحقيقة؛ فعقب انتهائى من الصلاة فوجئت بشاب صغير يوزع حبات الحلوى (ملبّس) من كيس بسيط على المصلين، وحكى لى قريب أنه شاهدٌ على ذبح (75) أضحية كبيرة فى جمعية واحدة بإحدى المدن، وجاءنى «فيديو» لشابين من إحدى الدول العربية يسقيان المارة ماء مثلجًا من عربة يدوية أعداها خصيصًا لهذا العمل الخيرى المتواضع.. ونماذج أخرى جميلة لا يتسع المقام لحصرها.

تأتى هذه النماذج العفوية فى وقت عصيب من عمر أمتنا بعد تجفيف منابع البر، وإغراق الشعوب فى حالة من الفرقة المجتمعية والطائفية السياسية، وبعد تفشى الشح والأنانية؛ لتؤكد أن المروءة لم تضع من أمة محمد ﷺ، رغم ما فُعل بها، وأن تلك مبشِّرات بانتصار الحق مهما علا الباطل، وأن عودة الأمة إلى سابق مجدها ستكون سريعة ولافتة، وستكون بأيدى الشعوب التى رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولًا.

إن العطاء بأنواعه وجبر خواطر الآخرين خلق إسلامى رفيع، أكده الكتاب والسنة، يصير فريضة فى مثل هذه الأحوال التى تمر بها مجتمعاتنا من الوباء والبلاء، والذل والانكسار، والظلم السياسى والاجتماعى؛ فالناس بحاجة إلى من يحنو عليها، ويقدم لها الدعمين: المادى والنفسى، يقول النبى ﷺ: «من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه فى الدنيا والآخرة»، ويقول سفيان الثورى -رحمه الله-: (ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم)، ولقد سمعت من صديق من إحدى قرى الجيزة أمرًا عجيبًا؛ ذلك أنه عند قسمة الميراث يتوافد فقراء العائلة الكبيرة ممن ليس لهم نصيب شرعى فى التركة، فلا تنتهى الجلسة إلا وقد نالوا قسطًا منها ترضى به نفوسهم؛ تطبيقًا للآية الكريمة: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [النساء: 8].

وهناك من الطرق والوسائل ما لا يمكن عدُّه فى مجال جبر الخواطر؛ مثل المشاركة فى الاجتماعيات (عزاء، تهنئة)، ومواساة ذوى المصائب والبلاءات، والعمال والخدم والمرءوسين، والأصدقاء والزملاء والجيران، والأهل أولى من كل هؤلاء؛ الوالدان والزوجة والأولاد.

وتطييب الخاطر وجبر صاحبه لا يُشترط أن يكون ماديًّا، بل فى أحيان كثيرة يكون معنويًّا، بالبر والصلة والسؤال وتفقد الأحوال، والاعتذار والصفح وإسداء الكلمة الطيبة، وربما كان إنفاق الوقت وبذل الحرفة أو المهنة أبلغ فى التأثير من المادة.

وإذا كانت المجتمعات الإسلامية يُضرب بها المثل فى السلامة من الطبقية والحقد الاجتماعى؛ فلأنها سلمت من الشح والأنانية، واشتُهرت بالتعاون والتكافل والمرحمة، على نهج نبيها الذى كانت تلك صفته حتى من قبل بعثته، أكدتها زوجه خديجة -رضوان الله عليها- يوم جاءها مرتعبًا من المَلَكِ فقالت له: «والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق»..

وكان صحابته -رضوان الله عنهم- على طريقته فى البذل والعطاء وتأليف القلوب؛ (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

إن موقفًا واحدًا تتعرض له يمكن أن يتحول إلى معركة، ويمكن أن تجعله أنت عملًا إيجابيًّا ودليلًا على رقيك وسماحة دينك، ففى الخلاف المرورى مثلًا قد تنتقم لنفسك فيتصاعد الخلاف، ويمكن أن تؤثر الخصم فتكسبه وتعطيه المثل فى المروءة والإحسان، فربما فعل فعلك مع الآخرين فيصير ذلك خلق المجتمع وعنوان أبنائه..

ومثله من ينجد المحتاج ويغيث المكروب ويعين الفقير والمسكين ويجيب السائلين ويرأف بالأرملة واليتيم.. وهذا وضرباؤه ناجون بإذن الله، فى الدنيا والآخرة، هذا وعد الله لعباده الباذلين؛ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5-7]، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20].